فصل: قال التستري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}.
إنصاف لفريق منهم بعد أن جرت تلك المذامّ على أكثرهم.
والمقتصد يطلق على المطيع، أي غيرُ مسرف بارتكاب الذنوب، واقف عند حدود كتابهم، لأنّه يقتصد في سَرف نفسه، ودليل ذلك مقابلته بقوله في الشقّ الآخر {ساء ما يعملون}.
وقد علم من اصطلاح القرآن التعبير بالإسراف عن الاسترسال في الذنوب، قال تعالى: {قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53]، ولذلك يقابل بالاقتصاد، أي الحذر من الذنوب، واختير المقتصد لأنّ المطيعين منهم قبل الإسلام كانوا غير بالغين غاية الطاعة، كقوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مُقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} [فاطر: 32].
فالمراد هنا تقسيم أهل الكتاب قبل الإسلام لأنّهم بعد الإسلام قسمان سيّء العمل، وهو من لم يسلم؛ وسابق في الخيرات، وهم الّذين أسلموا مثل عبد الله بن سَلاَم ومخيريق.
وقيل: المراد بالمقتصد غير المُفْرطين في بغض المسلمين، وهم الّذين لا آمنوا معهم ولا آذوْهم، وضدّهم هم المسيئون بأعمالهم للمسلمين مثل كعب بن الأشرف.
فالأوّلون بغضهم قلبي، والآخرون بغضهم بالقلب والعمل السيّء.
ويطلق المقتصد على المعتدل في الأمر، لأنّه مشتقّ من القصد، وهو الاعتدال وعدم الإفراط.
والمعنى مقتصدة في المخالفة والتنكّر للمسلمين المأخوذ من قوله: {وليزيدنّ كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربّك طغيانًا وكفرًا} [المائدة: 68].
والأظهر أن يكون قوله: {ساء} فعلًا بمعنى كان سيّئًا، و{ما يعملون} فاعله، كما قدّره ابن عطية.
وجعله في الكشاف بمعنى بِئْس، فقدّر قولًا محذوفًا ليصحّ الإخبار به عن قوله: {وكثير منهم}، بناء على التزام عدم صحّة عطف الإنشاء على الإخبار، وهو محلّ جدال، ويكون {ما يعملون} مخصوصًا بالذمّ، والّذي دعاه إلى ذلك أنّه رأى حمله على معنى إنشاء الذمّ أبلغ في ذمّهم، أي يقول فيهم ذلك كل قائل. اهـ.

.قال التستري:

قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [66] يعني لو علموا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فلو علمت به لبلغت هذه المنزلة كما بلغها من عمل بها، ولو أقبلت على الرازق لكفيت مؤنة الرزق. ثم قال: ولست أكبر من عمرو بن الليث كان يمر وبين يديه ألف راكب وألف غلام، في يد كل غلام عمود من ذهب وفضة، فآل أمره إلى أن حبس في بيت حين حمل إلى الخليفة، ومنع عنه الطعام والشراب، وفتح الباب فوجدوه ميتًا، وفمه مملوء من الجص والآجر من شدة جوعه. ثم قال: إني نصحت لكم، وإني لكم من الناصحين. وقد حكى مالك بن دينار عن حماد بن سلمة وحماد بن يزيد أنهما دخلا على رابعة فذكرا شيئًا من أمر الدنيا فقالت رابعة: لقد أكثرتما ذكر الدنيا، ما أظنكما إلاَّ جياعًا، فإن كنتما جياعًا فاعمدا إلى القدر وذلك الدقيق، فاصنعا لأنفسكما ما وسوس، قال بعض من كان معها: لو كان لنا ثوم. فقال حماد: فرأيت رابعة حركت شفتيها، فما سكتت حتى جاء طير في منقاره رأس ثوم، فرمى به ومضى. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة المائدة: الآيات 51- 53]

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ}.
لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتصافونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل النهى بقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} أى إنما يوالى بعضهم بعضا لاتحاد ملتهم واجتماعهم في الكفر، فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ} من جملتهم وحكمه حكمهم. وهذا تغليظ من اللَّه وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله، كما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «لا تراءى ناراهما» ومنه قول عمر رضى اللَّه عنه لأبى موسى في كاتبه النصراني: لا تكرموهم إذ أهانهم اللَّه، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم اللَّه، ولا تدنوهم إذ أقصاهم اللَّه: وروى أنه قال له أبو موسى: لا قوام للبصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام، يعنى هب أنه قد مات، فما كنت تكون صانعًا حينئذ فاصنعه الساعة، واستغن عنه بغيره {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يعنى الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم اللَّه ألطافه ويخذلهم مقتا لهم {يُسارِعُونَ فِيهِمْ} ينكمشون في موالاتهم ويرغبون فيها ويعتذرون بأنهم لا يأمنون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان، أى صرف من صروفه ودولة من دوله، فيحتاجون إليهم وإلى معونتهم. وعن عبادة بن الصامت رضى اللَّه عنه أنه قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إنّ لي موالي من يهود كثيرًا عددهم، وإنى أبرأ إلى اللَّه ورسوله من ولايتهم وأُوالى اللَّه ورسوله فقال عبد اللَّه بن أبىّ: إنى رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالىّ وهم يهود بنى قينقاع {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يقطع شأفة اليهود ويجلبهم عن بلادهم، فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم: وذلك أنهم كانوا يشكون في أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويقولون: ما نظن أن يتم له أمر، وبالحرى أن تكون الدولة والغلبة لهؤلاء. وقيل أو أمر من عنده: أو أن يؤمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم فيندموا على نفاقهم. وقيل: أو أمر من عند اللَّه لا يكون فيه للناس فعل كبني النضير الذين طرح اللَّه في قلوبهم الرعب، فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قرئ بالنصب عطفًا على أن يأتى، وبالرفع على أنه كلام مبتدأ، أى: ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت: وقرئ: يقول، بغير واو، وهي في مصاحف مكة والمدينة والشام كذلك على أنه جواب قائل يقول: فما ذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل: يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا. فإن قلت: لمن يقولون هذا القول؟ قلت: إمّا أن يقوله بعضهم لبعض تعجبًا من حالهم واغتباطًا بما منّ اللَّه عليهم من التوفيق في الإخلاص {أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا} لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار.
وإمّا أن يقولوه لليهود لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة، كما حكى اللَّه عنهم {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ}. {حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ} من جملة قول المؤمنين، أى بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأى أعين الناس. وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم! فما أخسرهم! أو من قول اللَّه عز وجل شهادة لهم بحبوط الأعمال وتعجبًا من سوء حالهم.

.[سورة المائدة: آية 54]

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)}.
وقرئ {مَنْ يَرْتَدَّ} ومن يرتدد، وهو في الإمام بدالين، وهو من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها. وقيل: بل كان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة: ثلاث في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: بنو مدلج، ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي، وكان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده، وأخرج عمال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فكتب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه اللَّه على يدي فيروز الديلمي بيته فقتله وأخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بقتله ليلة قتل، فسرّ المسلمون وقبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من الغد. وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول. وبنو حنيفة، قوم مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: من مسيلمة رسول اللَّه إلى محمد رسول اللَّه. أمّا بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب عليه الصلاة والسلام: «من محمد رسول اللَّه إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد، فإن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» فحاربه أبو بكر رضى اللَّه عنه بجنود المسلمين، وقتل على يدي وحشى قاتل حمزة. وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية، وشرّ الناس في الإسلام، أراد في جاهليتى وإسلامى. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خالدًا فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه. وسبع في عهد أبى بكر رضى اللَّه عنه: فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم قرّة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب، وفيها يقول أبو العلاء المعرى في كتاب استغفر واستغفري:
أمَّتْ سجَاحٌ وَوَالاهَا مُسَيْلِمَةٌ ** كَذَّابَةٌ في بَنِى الدُّنْيَا وَكَذَّابُ

وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطيم بن زيد، وكفى اللَّه أمرهم على يد أبى بكر رضى اللَّه عنه. وفرقة واحدة في عهد عمر رضى اللَّه عنه: غسان قوم جبلة ابن الأيهم نصرته اللطمة وسيرته إلى بلاد الروم بعد إسلامه فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ قبل لما نزلت أشار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى أبى موسى الأشعرى فقال: «قوم هذا» وقيل هم ألفان من النخع، وخمسة آلاف من كندة وبجيلة، وثلاثة آلاف من أفناء الناس جاهدوا يوم القادسية. وقيل: هم الأنصار. وقيل: سئل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال: «هذا وذووه» ثم قال: لو كان الإيمان معلقًا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه. ومحبة اللَّه لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثنى عليهم ويرضى عنهم: وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئًا، وهم الفرقة المفتعلة المتفعلة من الصوف، وما يدينون به من المحبة والعشق، والتغني على كراسيهم خربها اللَّه، وفي مراقصهم عطلها اللَّه، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء، وصعقاتهم التي أين عنها صعقة موسى عند دكّ الطور، فتعالى اللَّه عنه علوًا كبيرًا، ومن كلماتهم: كما أنه بذاته يحبهم، كذلك يحبون ذاته، فإنّ الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات. ومنها: الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة، فإذا لم يكن ذلك لم تكن فيه حقيقة. فإن قلت: أين الراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن لمعنى الشرط؟ قلت: هو محذوف معناه: فسوف يأتى اللَّه بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم، أو ما أشبه ذلك أَذِلَّةٍ جمع ذليل. وأما ذلول فجمعه ذلل. ومن زعم أنه من الذلّ الذي هو نقيض الصعوبة، فقد غبي عنه أنّ ذلولا لا يجمع على أذلة. فإن قلت: هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما أن يضمن الذلّ معنى الحنوّ والعطف «كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع. والثاني: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم. ونحوه قوله عز وجل: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} وقرئ: أذلة. وأعزة، بالنصب على الحال {وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ} لائِمٍ يحتمل أن تكون الواو للحال، على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين، فإنهم كانوا موالين لليهود- لعنت- فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود، فلا يعملون شيئًا مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم. وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه اللَّه لا يخافون لومة لائم قط. وأن تكون للعطف، على أن من صفتهم المجاهدة في سبيل اللَّه، وأنهم صلاب في دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين إنكار منكر أو أمر بمعروف، مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل ولا اعتراض معترض ولا لومة لائم، يشق عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم. واللومة: المرّة من اللوم، وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل: لا يخافون شيئًا قط من لوم أحد من اللوام. وذلِكَ إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة {يُؤْتِيهِ} يوفق له {مَنْ يَشاءُ} ممن يعلم أنّ له لطفًا واسِعٌ كثير الفواضل والألطاف عَلِيمٌ بمن هو من أهلها.